فصل: تفسير الآية رقم (147)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

استئناف بياني نشأ عن إبطال تحريم ما حرّمه المشركون، إذ يتوجّه سؤال سائل من المسلمين عن المحرّمات الثابتة، إذْ أبطلت المحرّمات الباطلة، فلذلك خوطب الرّسول صلى الله عليه وسلم ببيان المحرّمات في شريعة الإسلام بعد أن خوطب ببيان ما ليس بمحرّم ممّا حرّمه المشركون في قوله‏:‏ ‏{‏قل ءآلذّكرين حرم أم الأنثيين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏ الآيات‏.‏

وافتُتح الكلام المأمورُ بأن يقوله بقوله‏:‏ ‏{‏لا أجد‏}‏ إدماجاً للردّ على المشركين في خلال بيان ما حُرّم على المسلمين، وهذا الردّ جار على طريقة كناية الإيماء بأن لم يُنْفَ تحريم ما ادّعوا تحريمه صريحاً، ولكنّه يقول لا أجده فيما أوحي إليّ ويستفاد من ذلك أنَّه ليس تحريمه من الله في شرعه، لأنَّه لا طريق إلى تحريم شيء ممّا يتناوله النّاس إلاّ بإعلام من الله تعالى، لأنّ الله هو الّذي يُحلّ ما شاء ويحرّم ما شاء على وفق علمه وحكمته، وذلك الإعلام لا يكون إلاّ بطريق الوحي أو ما يُستنبط منه، فإذا كان حكم غير موجود في الوحي ولا في فروعه فهو حكم غير حقّ، فاستفيد بطلان تحريم ما زعموه بطريقة الإيماء، وهي طريقة استدلالية لأنّ فيها نفي الشّيء بنفي ملزومه‏.‏

و ‏{‏أجد‏}‏ بمعنى‏:‏ أظفر، وهو الّذي مصدره الوَجد والوجدانُ، وهو هنا مجاز في حصول الشّيء وبلوغه، يقال‏:‏ وجَدْت فلاناً ناصراً، أي حصلت عليه، فشبّه التّحصيل للشّيء بالظفَر وإلْفاءِ المطلوب، وهو متعدّ إلى مفعول واحد‏.‏

والمراد، ب ‏{‏ما أوحي‏}‏ ما أعلمه الله رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي غير القرآن لأنّ القرآن النّازل قبل هذه الآية ليس فيه تحريم الميتة والدّم ولحم الخنزير وإنَّما نزل القرآن بتحريم ما ذكر في هذه الآية ثمّ في سورة المائدة‏.‏

والطاعم‏:‏ الآكِلُ، يقال‏:‏ طَعِم كَعَلِم، إذا أكل الطَّعام، ولا يقال ذلك للشَّارب، وأمَّا طَعِم بمعنى ذاق فيستعمل في ذوق المطعومات والمشروبات، وأكثر استعماله في النّفي، وتقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يطعَمْه فإنَّه منّي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏249‏)‏، وبذلك تكون الآية قاصرة على بيان محرّم المأكولات‏.‏

وقوله‏:‏ يطعمه‏}‏ صفة لطاعم وهي صفة مؤكّدة مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والاستثناء من عموم الأكوان الّتي دلّ عليها وقوع النّكرة في سياق النّفي‏.‏ أي لا أجد كائناً محرّماً إلاّ كونه ميتة إلخ أي‏:‏ إلاّ الكائن ميتة إلخ، فالاستثناء متّصل‏.‏

والحصر المستفاد من النّفي والاستثناء حقيقي بحسب وقت نزول هذه الآية‏.‏ فلم يكن يومئذ من محرّمات الأكل غير هذه المذكورات لأنّ الآية مكّيّة ثمّ نزلت سورة المائدة بالمدينة فزيد في المحرمات كما يأتي قريباً‏.‏

والمسفوح‏:‏ المصبوب السائل، وهو ما يخرج من المذبح والمَنْحَر‏.‏ أو من الفصد في بعض عروق الأعضاء فيسيل‏.‏

وقد كان العرب يأكلون الدّم الّذي يسيل من أوداج الذّبيحة أو من منحَر المنحورة ويجمعونه في مَصير أو جِلد ويجفّفونه ثمّ يشْوونه، وربّما فصدوا من قوائم الإبل مَفصدا فأخذوا ما يحتاجون من الدّم بدون أن يهلك البعير، وربَّما خلطوا الدّم بالوَبَر ويسمّونه ‏(‏العِلْهِز‏)‏، وذلك في المجاعات‏.‏ وتقييد الدّم بالمسفوح للتّنبيه على العفو عن الدمّ الّذي ينزّ من عروق اللّحم عند طبخه فإنَّه لا يمكن الاحتراز عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإنه رجس‏}‏ جملة معترضة بين المعطوفات، والضّمير قيل‏:‏ عائد إلى لحم الخنزير، والأظهر أن يعود إلى جميع ما قبله، وأنّ افراد الضّمير على تأويله بالمذكور، أي فإنّ المذكور رجس، كما يفرد اسم الإشارة مثل قوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلق أثاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والرّجس‏:‏ الخبيث والقَذر‏.‏ وقد مضى بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏ في هذه السورة ‏(‏125‏)‏‏.‏

فإن كان الضّمير عائداً إلى لحم الخنزير خاصّة فوصفه برجس تنبيه على ذمّه‏.‏ وهو ذمّ زائد على التّحريم، فوَصفه به تحذير من تناوله‏.‏ وتأنيس للمسلمين بتحريمه، لأنّ معظم العرب كانوا يأكلون لحم الخنزير بخلاف الميتة والدّم فما يأكلونها إلاّ في الخصاصة‏.‏ وخباثة الخنزير علمها الله تعالى الّذي خلَقه‏.‏ وتبيّن أخيراً أنّ لحمه يشتمل على ذرّات حيوانية مضرّة لآكِله أثبتها علم الحيوان وعلم الطبّ‏.‏ وقيل‏:‏ أريد أنَّه نجس لأنَّه يأكل النّجاسات وهذا لا يستقيم لأنّ بعض الدّواب تأكل النّجاسة وتُسمّى الجلاّلة وليست محرّمة الأكللِ في صحيح أقوال العلماء‏.‏

وإن كان الضّمير عائداً إلى الثلاثة بتأويل المذكور كان قوله‏:‏ فإنه رجس‏}‏ تنبيهاً على علّة التّحريم وأنَّها لدفع مفسدة تحصل من أكل هذه الأشياء‏.‏ وهي مفسدة بدنيّة‏.‏ فأمَّا الميتة فلما يتحوّل إليه جسم الحيوان بعد الموت من التعفّن، ولأنّ المرض الّذي كان سبب موته قد يَنتقل إلى آكله‏.‏ وأمَّا الدّم فلأنّ فيه أجزاء مضرّة‏.‏ ولأنّ شُربه يورث ضراوة‏.‏

والفسق‏:‏ الخروج عن شَيْء‏.‏ وهو حقيقة شرعية في الخروج عن الإيمان، أو عن الطّاعة الشّرعية، فلذلك يوصف به الفعل الحرام باعتبار كونه سبباً لفسق صاحبه عن الطّاعة‏.‏ وقد سمّى القرآن ما أهلّ به لغير الله فسقاً في الآية السالفة وفي هذه الآية، فصار وصفاً مشهوراً لِمّا أهلّ به لغير الله، ولذلك أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏أهل لغير الله به‏}‏‏.‏ فتكون جملة‏:‏ ‏{‏أهل لغير الله به‏}‏ صفة أو بياناً ل ‏{‏فسقاً‏}‏، وفي هذا تنبيه على أنّ تحريم ما أهلّ لغير الله به ليس لأنّ لحمه مضرّ بل لأنّ ذلك كفر بالله‏.‏

وقد دلّت الآية على انحصار المحرّمات من الحيوان في هذه الأربعة، وذلك الانحصار بحسب ما كان مُحرّماً يوم نزول هذه الآية، فإنَّه لم يحرّم بمكّة غيرها من لحم الحيوان الّذي يأكلونه، وهذه السّورة مكّيّة كلّها على الصّحيح، ثمّ حرّم بالمدينة أشياء أخرى، وهي‏:‏ المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وأكيلة السّبع بآية سورة العقود ‏(‏3‏)‏‏.‏

وحُرّم لحم الحُمر الإنسيّة بأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم على اختلاف بين العلماء في أنّ تحريمه لذاته كالخنزير، أو لكونها يومئذ حَمولة جيش خيبر، وفي أنّ تحريمه عند القائلين بأنّه لذاته مستمرّ أو منسوخ، والمسألة ليست من غرض التّفسير فلا حاجه بنا إلى ما تكلّفوه من تأويل حصر هذه الآية المحرّمات في الأربعة‏.‏ وكذلك مسألة تحريم لحم كلّ ذي ناب من السّباع ولحم سباع الطّير وقد بسطها القرطبي وتقدّم معنى‏:‏ ‏{‏أهِلّ لغير الله به‏}‏ في تفسير سورة المائدة ‏(‏3‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ إلاّ أن يكون‏}‏ بياء تحتيّة ونصب ‏{‏ميتة‏}‏ وما عطف عليها وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وحمزة بتاء فوقيّة ونصب ‏{‏ميتة‏}‏ وما عطف عليه عند من عَدا ابن عامر‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتاء فوقيّة ورفع ‏{‏ميتةٌ‏}‏ ويشكل على هذه القراءة أنّ المعطوف على ميتة منصوبات وهي‏:‏ ‏{‏أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به‏}‏‏.‏ ولم يعرّج عليها صاحب «الكشاف»، وقد خُرّجت هذه القراءة على أن يكون‏:‏ ‏{‏أو دماً مسفوحاً‏}‏ عطفاً على ‏{‏أنْ‏}‏ وصلتها لأنَّه محلّ نصب بالاستثناء فالتّقدير‏:‏ إلاّ وجود ميتة، فلمّا عبّر عن الوجود بفعل ‏{‏يكون‏}‏ التّامّ ارتفع ما كان مضافاً إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد‏}‏ تقدّم القول في نظيره في سورة البقرة ‏(‏173‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏.‏‏}‏ وإنَّما جاء المسند إليه في جملة الجزاء وهو ربك‏}‏ معرّفاً بالإضافة دون العلميّة كما في آية سورة البقرة ‏(‏192‏)‏‏:‏ ‏{‏فإنّ الله غفور رحيم‏}‏ لما يؤذن به لفظ الربّ من الرأفة واللّطف بالمربوب والولاية، تنبيها على أنّ الله جعل هذه الرّخصة للمسلمين الّذين عبدوه ولم يشركوا به، وأنَّه أعرض عن المشركين الّذين أشركوا معه غيره لأنّ الإضافة تشعر بالاختصاص، لأنَّها على تقدير لام الاختصاص، فلمّا عبر عن الغفور تعالى بأنَّه ربّ النّبيء عليه الصّلاة والسّلاة علم أنَّه ربّ الَّذين اتَّبعوه، وأنَّه ليس ربّ المشركين باعتبار ما في معنى الربّ من الولاية، فهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم‏}‏‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏ أي لا مولى يعاملهم بآثار الولاية وشعارها، ذلك لأنّ هذه الآية وقعت في سياق حجاج المشركين بخلاف آية البقرة ‏(‏172‏)‏ فإنَّها مفتتحة بقوله‏:‏ ‏{‏يأيّها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم‏.‏‏}‏ والإخبار بأنَّه غفور رحيم، مع كون ذلك معلوماً من مواضع كثيرة، هو هنا كناية عن الإذن في تناول تلك المحرّمات عند الاضطرار ورفع حرج التّحريم عنها حينئذ فهو في معنى قوله في سورة البقرة ‏(‏182‏)‏‏:‏ ‏{‏فلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏وعلى الذين ادوا حرمنا‏}‏ عَطْف على جملة‏:‏ ‏{‏قُل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ عطفَ خبر على إنشاء، أي بيِّن لهم ما حرّم في الإسلام، واذكُرْ لهم ما حرّمنا على الّذين هادوا قبل الإسلام، والمناسبة أنّ الله لمّا أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يبيّن ما حَرّم الله أكله من الحيوان، وكان في خلال ذلك تنبيه على أنّ ما حرّمه الله خبيث بعضُه لا يصلح أكله بالأجساد الّذي قال فيه ‏{‏فإنه رجس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، ومنه ما لا يلاقي واجب شكر الخالق وهو الّذي قال فيه‏:‏ ‏{‏أو فِسقاً أهل لغير الله به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ أعقب ذلك بذكر ما حرّمه على بني إسرائيل تحريماً خاصّاً لحكمة خاصّة بأحوالهم، وموقَّتة إلى مجيء الشّريعة الخاتمة‏.‏ والمقصود من ذكر هذا الأخير‏:‏ أن يظهر للمشركين أنّ ما حرّموه ليس من تشريع الله في الحال ولا فيما مضى، فهو ضلال بحت‏.‏ وتقديم المجرور على متعلَّقة في قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا‏}‏ لإفادة الاختصاص، أي عليهم لا على غيرهم من الأمم‏.‏

والظفر‏:‏ العظم الذي تحت الجلد في منتهى أصابع الإنسان والحيوان والمخالب، وهو يقابل الحافر والظلف ويكون للإبل والسّبع والكلب والهرّ والأرنب والوبْر ونحوها؛ فهذه محرّمة على اليهود بنص شريعة موسى عليه السّلام ففي الإصحاح الرابع عشر من سفر التّثنية‏:‏ «الجمل والأرنب والوَبْر فلا تأكلوها»‏.‏

والشّحوم‏:‏ جمع شحم، وهو المادّة الدُهنية التي تكون مع اللّحم في جسد الحيوان، وقد أباح الله لليهود أكل لحوم البقر والغنم وحرم عليهم شحومهما إلاّ ما كان في الظهر‏.‏

و ‏{‏الحوايا‏}‏ معطوف على ‏{‏ظهورهما‏}‏‏.‏ فالمقصود العطف على المباح لا على المحرّم، أي‏:‏ أو ما حملت الحوايا، وهي جمع حَوِيَّة، وهي الأكياس الشَّحميّة التي تحوي الأمعاء‏.‏

‏{‏أو ما اختلط بعظم‏}‏ هو الشّحم الذي يكون ملتفّاً على عَظْم الحيوان من السِّمَن فهو معفو عنه لعسر تجريده عن عظمه‏.‏

والظّاهر أنّ هذه الشّحوم كانت محرّمة عليهم بشريعة موسى عليه السّلام، فهي غير المحرّمات التي أجملتها آية سورة النّساء ‏(‏160‏)‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم، كما أشرنا إليه هنالك لأنّ الجرائم التي عدّت عليهم هنالك كلّها ممّا أحدثوه بعد موسى عليه السّلام‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ذلك جزيناهم ببغيهم‏}‏ يراد منه البغي الذي أحدثوه زمن موسى‏.‏ في مدّة التيه، ممّا أخبر الله به عنهم‏:‏ مثل قولهم‏:‏ ‏{‏لن نصبِرَ على طعام واحد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏فاذْهَب أنت وربّك فقاتلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ وعبادتِهم العِجْل‏.‏ وقد عدّ عليهم كثير من ذلك في سورة البقرة‏.‏

ومناسبة تحريم هذه المحرّمات للكون جزاءً لبغيهم‏:‏ أنّ بغيهم نشأ عن صلابة نفوسهم وتغلّب القوّة الحيوانيّة فيهم على القوّة المَلكيّة، فلعلّ الله حرّم عليهم هذه الأمور تخفيفاً من صلابتهم، وفي ذلك إظهار منَّته على المسلمين بإباحة جميع الحيوان لهم إلاّ ما حرّمه القرآن وحرّمتْه السنّة ممّا لم يختلف فيه العلماء وما اختلفوا فيه‏.‏

ولم يذكر الله تحريم لحم الخنزير، مع أنَّه ممّا شمله نصّ التّوراة، لأنَّه إنَّما ذكر هنا ما خُصّوا بتحريمه ممّا لم يحرّم في الإسلام، أي ما كان تحريمه موقَّتاً‏.‏

وتقديم المجرور على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏ومن البقر والغنم حرمنا عليهم‏}‏ للاهتمام ببيان ذلك، لأنَّه ممّا يلتفت الذّهن إليه عند سماع تحريم كلّ ذي ظُفُر فيترقّب الحكم بالنّسبة إليهما فتقديم المجرور بمنزلة الافتتاح ب ‏(‏أمَّا‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ذلك جزيناهم ببغيهم‏}‏ تذييل يبيِّن علّة تحريم ما حرّم عليهم‏.‏

واسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك جزيناهم‏}‏ مقصود به التّحريم المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏حرمنا‏}‏ فهو في موضع مفعول ثان‏:‏ ل ‏{‏جزيناهم‏}‏ قدّم على عامله ومفعولِه الأوّل للاهتمام به والتَّثبيت على أنّ التّحريم جزاء لبغيهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وإنا لصادقون‏}‏ تذييل للجملة التي قبلها قصداً لتحقيق أنّ الله حرّم عليهم ذلك، وإبطالاً لقولهم‏:‏ إنّ الله لم يحرّم علينا شيئاً وإنَّما حرّمنا ذلك على أنفسنا اقتداء بيعقوب فيما حرّمه على نفسه لأنّ اليهود لمّا انتبزوا بتحريم الله عليهم ما أحلّه لغيرهم مع أنَّهم يزعمون أنَّهم المقرّبون عند الله دون جميع الأمم، أنكروا أن يكون الله حرّم عليهم ذلك وأنَّه عقوبة لهم فكانوا يزعمون أنّ تلك المحرّمات كان حرّمها يعقوب على نفسه نذراً لله فاتَّبعه أبناؤه اقتداء به‏.‏ وليس قولهم بحقّ‏:‏ لأنّ يعقوب إنَّما حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، كما ذكره المفسّرون وأشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏93‏)‏‏.‏ وتحريم ذلك على نفسه لنذر أو مصلحة بدنية لا يسرى إلى من عداه من ذرّيته‏.‏ وأنّ هذه الأشياء التي ذكر الله تحريمها على بني إسرائيل مذكور تحريمها في التّوراة فكيف ينكرون تحريمها‏.‏

فالتّأكيد للردّ على اليهود ونظيرُ قوله هنا‏:‏ ‏{‏وإنَّا لصادقون‏}‏ قولُه في سورة آل عمران ‏(‏93‏)‏‏.‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل‏.‏ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين إلى قوله‏:‏ ‏{‏قل صدق الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93 95‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

تفريع على الكلام السّابق الذي أبطل تحريم ما حرّموه، ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏ الآيات أي‏:‏ فإن لم يرعَوُوا بعد هذا البيان وكذّبوك في نفي تحريم الله ما زعموا أنَّه حرّمه فذكِّرهم ببأس الله لعلّهم ينتهون عمّا زعموه، وذكِّرهم برحمته الواسعة لعلّهم يبادرون بطلب ما يخوّلهم رحمته من اتّباع هَدي الإسلام، فيعود ضمير‏:‏ ‏{‏كذبوك‏}‏ إلى المشركين وهو المتبادر من سياق الكلام‏:‏ سابِقِه ولاحقه، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون في قوله‏:‏ ‏{‏فقل ربكم ذو رحمة واسعة‏}‏ تنبيه لهم بأنّ تأخير العذاب عنهم هو إمهال داخل في رحمة الله رحمة مؤقّته، لعلّهم يسلمون‏.‏ وعليه يكون معنى فعل‏:‏ ‏{‏كذبوك‏}‏ الاستمرار، أي إن استمرّوا على التّكذيب بعد هذه الحجج‏.‏

ويجوز أن يعود الضّمير إلى ‏{‏الذين هادوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، تكملة للاستطراد وهو قول مجاهد والسُدّي‏:‏ أنّ اليهود قالوا لم يُحرّم الله علينا شيئاً وإنَّما حرّمنا ما حرّم إسرائيل على نفسه، فيكون معنى الآية‏:‏ فَرْض تكذيبهم قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ إلخ، لأنّ أقوالهم تخالف ذلك فهم بحيث يكذّبون ما في هذه الآية، ويشتبه عليهم الإمهال بالرّضى، فقيل لهم‏:‏ ‏{‏ربكم ذو رحمة واسعة‏}‏‏.‏ ومن رحمته إمهاله المجرمين في الدّنيا غالباً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين‏}‏ فيه إيجاز بحذف تقديره‏:‏ وذو بأس ولا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين إذا أراده‏.‏ وهذا وعيد وتوقّع وهو تذييل، لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏عن القوم المجرمين‏}‏ يعمّهم وغيرهم وهو يتضمّن أنهم مجرمون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

استئناف رجع به الكلام إلى مجادلة المشركين بعد أن اعترض بينها بقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أجد في مآ أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلى قوله فإنّ ربّك غفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، فلمّا قطع الله حجّتهم في شأن تحريم ما حرّموه، وقسمة ما قسموه، استقصى ما بقي لهم من حجّة وهي حجّة المحجوج المغلوب الذي أعيته المجادلة ولم تبق له حجّة، إذ يتشبّث بالمعاذير الواهية لترويج ضلاله، بأن يقول‏:‏ هذا أمر قضي وقدّر‏.‏

فإن كان ضمير الرّفع في قوله‏:‏ ‏{‏فإن كذبوك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 147‏]‏ عائداً إلى المشركين كان قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا‏}‏ إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة تفظيع أقوالهم، فإخبار الله عنهم بأنَّهم سيقولون ذلك إن كان نزول هذه الآية قبلَ نزول آية سورة النّحل ‏(‏35‏)‏‏:‏ ‏{‏وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء‏}‏ وهو الأرجح، فإنّ سورة النَّحل معدودة في النّزول بعد سورة الأنعام، كان الإخبار بأنَّهم سيقولونه اطلاعاً على ما تُكنّه نفوسهم من تزوير هذه الحجّة، فهو معجزة من معجزات القرآن من نوع الإخبار بالغيب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وإن كان نزول هذه الآية بعد نزول آية سورة النّحل فالإخبار بأنَّهم سيقولونه معناه أنَّهم سيعيدون معذرتهم المألوفة‏.‏

وحاصل هذه الحجّة‏:‏ أنَّهم يحتجّون على النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّ ما هم عليه لو لم يكن برضى الله تعالى لصَرَفَهم عنه ولَمَا يسَّره لهم، يقولون ذلك في معرض إفحام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وإبطال حُكمه عليهم بالضّلالة، وهذه شبهة أهل العقول الأفِنة الذين لا يُفرّقون بين تصرّف الله تعالى بالخَلْق والتّقدير وحفظِ قوانين الوجود، وهو التصرّف الذي نسمّيه نحن بالمشيئة وبالإرادة، وبين تصرّفه بالأمر والنّهي، وهو الذي نسمّيه بالرّضى وبالمحبّة، فالأوّل تصرّف التّكوين والثّاني تصرف التّكليف، فهم يحسبون أنّ تمكّنهم من وضع قواعد الشّرك ومن التّحريم والتّحليل ما هو إلاَّ بأن خلق الله فيهم التمكّن من ذلك، فيحسبون أنَّه حين لم يمسك عِنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه، وأنَّه لو كان لا يرضى به لما عجز عن سلب تمكّنهم، يحسبون أنّ الله يُهمّه سوءُ تصرّفهم فيما فطرهم عليه، ولو كان كما يتوهَّمون لكان الباطل والحقّ شيئاً واحداً، وهذا ما لا يفهمه عقل حَصيف، فإنّ أهل العقول السّخيفة حين يتوهَّمون ذلك كانوا غير ملتفتين إلاّ إلى جانب نحلتهم ومعرضين عن جانب مخالفهم، فإنَّهم حين يقولون‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ غافلون عن أن يقال لهم‏.‏ من جانب الرّسول‏:‏ لو شاء الله ما قلتُ لكم أنّ فعلكم ضلال، فيكون الله على حسب شبهتهم قد شاء الّشيء ونقيضه إذ شاء أنَّهم يشركون وشاء أن يقول لهم الرّسول لا تشركوا‏.‏

وسبب هذه الضّلالة العارضة لأهل الضّلال من الأمم، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا‏:‏ أمْرُ الله أو مَكْتُوبُ عند الله أو نحو ذلك، هو الجهل بأنّ حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجاباً بين تصرّفه تعالى في أحوال المخلوقات، وبين تصرّفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسبّبات بأسبابها، وارتباطِ أحوال الموجودات في هذا العالم بعضِها ببعض، ومنه ما يسمّى بالكَسب والاستطاعة عند جمهور الأشاعرة، ويسمّى بالقدرة عند المعتزلة وبعضضِ الأشاعرة، وذلك هو مورد التّكليف الدالّ على ما يرضاه الله وما لا يرضى به، وأنّ الله وضع نظام هذا العالم بحكمة فجعل قِوامه هو تدبير الأشياء أمورَها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خُلقت لأجله، وزاد الإنسانَ مزيَّةً بأن وضع له عقلاً يمكّنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه، ووضّع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشرّ، كما قيّض له دعاة إلى الخير تنبّهه إليه إن عرته غفلة، أو حجبته شهوة، فإن هو لم يرعوِ غيِّهْ، فقد خَانَ بساطَ عقله بطَيِّهْ‏.‏

وبهذا ظهر تخليط أهل الضّلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله، فلذلك ردّ الله عليهم هنا قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله مآ أشركنا ولا أباؤنا‏}‏ لأنَّهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏ فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة‏.‏

فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها، فقال‏:‏ كذلك كذب الذين من قبلهم فَشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكذّبين الذين من قبلهم، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة ‏(‏107‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا‏.‏‏}‏ وليس في هذه الآية ما ينهض حجّة لنا على المعتزلة، ولا للمعتزلة علينا، وإن حاول كلا الفريقين ذلك لأنّ الفريقين متّفقان على بطلان حجّة المشركين‏.‏ وفي الآية حجّة على الجبرية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏}‏ أي كذّب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذّبك هؤلاء‏.‏ وهذا يدلّ على أنّ الذين أشركوا قصدوا بقولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ دعاهم إلى الإقلاع عمّا يعتقدون بحجّة أنّ الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى، فكذلك الأمم قبلهم كذّبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة فسمّى الله استدلالهم هذا تكذيباً، لأنَّهم ساقوه مساق التّكذيب والإفحام، لا لأنّ مقتضاه لا يقول به الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فإنَّا نقول ذلك كما قال تعالى‏:‏

‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏ نريد به معنى صحيحاً فكلامهم من باب كلام الحقّ الذي أريد به باطل، ووقع في «الكشاف» أنّه قرئ‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏}‏ بتخفيف ذال كذب وقال الطيّبي‏:‏ هي قراءة موضوعة أو شاذّة يعني شاذّة شذوذاً شديداً ولم يروها أحد عن أحد من أهل القراءات الشاذّة، ولعلّها من وضع بعض المعتزلة في المناظرة كما يؤخذ من كلام الفخر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى ذاقوا بأسنا‏}‏ غاية للتكذيب مقصود منها دوامهم عليه إلى آخر أوقات وجودهم‏.‏ فلمّا ذاقوا بأس الله هلكوا واضمحلّوا، وليست الغاية هنا للتّنهية‏:‏ والرّجوع عن الفعل لظهور أنَّه لا يتصوّر الرّجوع بعد استئصالهم‏.‏

والذّوق مجاز في الإحساس والشّعور، فهو من استعمال المقيّد في المطلق، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليذوقَ وبال أمره في سورة العقود ‏(‏95‏)‏‏.‏

والبأس تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة وإضافته إلى ضمير الله تعالى لتعظيمه وتهويله‏.‏

وأمَرَ الله رسولَه بالجواب عن مقالهم الواقع أو المتوقّع بقوله‏:‏ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا‏}‏، ففصل جملة‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لأنَّها جارية مجرى المقاولة والمجاوبة كما تقرّر غير مرّة، وجاء بالاستفهام المقصود منه الإفحَام والتهكّم بما عُرف من تشبّثُهم بمثل هذا الاستدلال‏.‏

وجُعل الاستفهام ب ‏{‏هَلْ‏}‏ لأنَّها تدلّ على طلب تحقيق الإسناد المسؤول عنه، لأنّ أصل ‏{‏هل‏}‏ أنَّها حرف بمعنى «قد» لاختصاصها بالأفعال، وكثرَ وقوعها بعد همزة الاستفهام، فغلب عليها معنى الاستفهام، فكثر حذف الهمزة معها حتّى تنوسيت الهمزة في مشهور الكلام ولم تظهر معها إلا في النّادر، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون في سورة العقود ‏(‏91‏)‏‏.‏ فدلّ هل‏}‏ على أنَّه سائل عن أمر يريد أن يكون محقّقا كأنَّه يرغب في حصوله فيغريهم بإظهاره حتّى إذا عجزوا كان قطعاً لدعواهم‏.‏

والمقصود من هذا الاستفهام التهكّم بهم في قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا ألى ولا حرمنا‏}‏، فأظهر لهم من القول من يظهره المعجَب بكلامهم‏.‏ وقرينة التّهكّم بادية لأنَّه لا يظنّ بالرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أن يطلبوا العلم من المشركين، كيف وهو يصارحهم بالتّجهيل والتّضليل صباحَ مساءَ‏.‏

والعِلم‏:‏ ما قابل الجهل، وإخراجه الإعلام به، شبهت إفادة المعلوم لمن يجهله بإخراج الشّيء المخبوء، وذلك مثل التّشبيه في قول النّبي صلى الله عليه وسلم «وعلم بثّه في صدور الرّجال» ولذلك كان للإتيان‏:‏ ب ‏{‏عندكم‏}‏ موقع حسن، لأنّ ‏(‏عند‏)‏ في الأصل تدلّ على المكان المختصّ بالذي أضيف إليه لفظُها، فهي ممّا يناسب الخفاء، ولولا شيوع استعمالها في المعنى المجازي حتّى صارت كالحقيقة لقلْتُ‏:‏ إنّ ذكر ‏(‏عند‏)‏ هنا ترشيح لاستعارة الإخراج للإعلام‏.‏

وجعل إخراج العلم مرتَّباً بفاء السَّببيّة على العندية للدّلالة على أنّ السّؤال مقصود به ما يتسبّب عليه‏.‏

واللاّم في‏:‏ ‏{‏فتخرجوه لنا‏}‏ للأجْل والاختصاص، فتؤذن بحاجة مجرورها لمتعلّقها، أي فتخرجوه لأجلنا‏:‏ أي لنفعنا، والمعنى‏:‏ لقد أبدعتم في هذا العلم الذي أبديتموه في استفادتكم أنّ الله أمركم بالشّرك وتحريم ما حرّمتموه بدلالة مشيئة على ذلك إذ لو شاء لما فعلتم ذلك فزيدونا من هذا العلم‏.‏

وهذا الجواب يشبه المنع في اصطلاح أهل الجدل، ولمّا كان هذا الاستفهام صورياً وكان المتكلّم جازماً بانتفاء ما استَفْهَم عنه أعقبه بالجواب بقوله‏:‏ ‏{‏إن تتبعون إلا الظن‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن تتبعون إلا الظن‏}‏ مستأنفة لأنَّها ابتداء كلام بإضراب عن الكلام الذي قبله، فبعد أن تهكّم بهم جدّ في جوابهم، فقال‏:‏ ‏{‏إن تتبعون إلا الظن‏}‏ أي‏:‏ لا علم عندكم‏.‏ وقصارى ما عندكم هو الظنّ الباطل والخَرْص‏.‏ وهذا يشبه سند المنع في عرف أهل الجدل‏.‏ والمراد بالظنّ الظنّ الكاذب وهو إطلاق له شائع كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏116‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشرَكْنا ولا آباؤنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ تكملة للجواب السّابق لأنَّه زيادة في إبطال قولهم، وهو يشبه المعارضة في اصطلاح أهل الجدل‏.‏

وأعيد فعل الأمر بالقول لاسترعاء الأسماع لِما سيرد بعد فعل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ وقد كرّر ثلاث مرات متعاقبة بدون عطف، والنكتة ما تقدم من كون القول جارياً على طريقة المقاولة‏.‏

والفاء فصيحة تؤذن بكلام مقدّر هو شرط، والتّقدير‏:‏ فإن كان قولكم لمجرّد اتّباع الظنّ والخرص وسوء التّأويل فللّه الحجّة البالغة‏.‏ وتقديم المجرور على المبتدأ لإفادة الاختصاص، أي‏:‏ لله لا لكم، ففهم منه أنّ حجتّهم داحضة‏.‏

والحجّة‏:‏ الأمر الذي يدلّ على صدق أحد في دعواه وعلى مصادفة المستدلّ وجه الحقّ، وتقدّم القول فيها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للنّاس عليكم حجّة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏150‏)‏‏.‏

والبالغة هي الواصلة‏:‏ أي الواصلة إلى ما قُصدت لأجله، وهو غَلَب الخصم، وإبطالُ حجّته، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حِكْمة بالغة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 5‏]‏، فالبلوغ استعارة مشهورة لحصول المقصود من الشّيء فلا حاجة إلى إجراء استعارة مكنيّة في الحجّة بأن تشبّه بسائر إلى غاية، وقرينتها إثباتُ البلوغ، ولا حاجة أيضاً إلى جعل إسناد البلوغ إلى الحجّة مجازاً عقلياً، أي بالغاً صاحبُها قَصْدَه، لأنَّه لا محيصّ من اعتبار الاستعارة في معنى البلوغ، فالتّفسير به من أوّل وهلة أولى، والمعنى‏:‏ لله الحجّة الغالبة لكم، أي وليس استدلالُكم بحجّة‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلو شاء‏}‏ فاء التّفريع على ظهور حجّة الله تعالى عليهم‏:‏ تفرع على بطلان استدلالهم أنّ الله لو شاء لهداهم، أي لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بأن يغيّر عقولهم فتأتيَ على خلاف ما هُيِّئتْ له لَكَان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصّة بهم أو خارق عادة لأجلهم، إذ لا يعجزه شيء، ولكن حكمته قضت أن لا يعمّم عنايته بل يختصّ بها بعض خاصّته، وأن لا يعدل عن سنّته في الهداية بوضع العقول وتنبيهها إلى الحقّ بإرسال الرّسل ونصب الأدلّة والدّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة، فالمشيئة المقصودة في قوله‏:‏ فلو شاء لهداكم غير المشيئة المقصودة فيما حكى الله عنهم من قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ وإلاّ لكان ما أُنكر عليهم قد أثبت نظيره عقب الإنكار فتتناقض المُحَاجَّة، لأنّ الهداية تساوي عدم الإشراك وعدمَ التحريم، فلا يصدُق جعل كليهما جواباً للَوْ الامتناعيّة، فالمشيئة المقصودة في الردّ عليهم هي المشيئة الخفيّة المحجوبة، وهي مشيئة التّكوين، والمشيئة المنكرة عليهم هي ما أرادوه من الاستدلال بالواقع على الرّضى والمحبّة‏.‏ هذا وجه تفسير هذه الآية التي كلَّلها من الإيجاز ما شتَّت أفهاماً كثيرة في وجه تفسيرها لا يَخفى بُعدها عن مُطالع التّفاسير والموازنةُ بينها وبين ما هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي‏:‏ للانتقال من طريقة الجدل والمناظرة في إبطال زعمهم، إلى إبطاله بطريقة التّبيين، أي أحضروا من يشهدون أنّ الله حرّم هذا، تقصياً لإبطال قولهم من سائر جهاته‏.‏ ولذلك أعيد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما يظهر كذب دعواهم‏.‏

وإعادة فعل ‏{‏قل‏}‏ بدون عطف لاسترعاء الأسماع ولوقوعه على طريقة المحاورة كما قدمناه آنفاً‏.‏

و ‏{‏هلمّ‏}‏ اسم فعللِ أمْرٍ للحُضور أو الإحضار، فهي تكون قاصرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هلمّ إلينا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18‏]‏ ومتعدية كما هنا، وهو في لغة أهل الحجاز يلزم حالة واحدة فلا تلحقه علامات مناسبة للمخاطب، فتقول‏:‏ هلمّ يا زيدُ، وهلمّ يا هندُ، وهكذا، وفي لغة أهل العالية أعني بني تميم تلحقه علامات مناسبة، يقولون‏:‏ هَلُمّي يا هند، وهلُمَّا، وهلُمّوا، وهلْمُمْنَ، وقد جاءَ في هذه الآية على الأفصح فقال‏:‏ ‏{‏هلم شهداءكم‏}‏‏.‏

والشّهداء‏:‏ جمع شهيد بمعنى شاهد، والأمر للتّعجيز إذ لا يَلقون شهداء يشهدون أنّ الله حرّم ما نسبوا إليه تحريمه من شؤون دينهم المتقدّم ذكرها‏.‏ وأضيف الشّهداء إلى ضمير المخاطبين لزيادة تعجيزهم، لأنّ شأن المحقّ أن يكون له شهداء يعلمهم فيحضرهم إذا دُعي إلى إحقاق حقّه، كما يقال للرّجل‏:‏ اركَب فرسك والْحَقْ فلاناً، لأنّ كلّ ذي بيت في العرب لا يَعدِم أن يكون له فرس، فيقول ذلك له من لا يعلم له فرساً خاصاً ولكن الشأن أن يكون له فرس ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدنين عليهن من جلابيبهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏ وقد لا يكون لإحداهن جلباب كما ورد في الحديث أنَّه سئل‏:‏ إذا لم يكن لإحدانا جلباب، قال‏:‏ لتُلْبِسْها أخْتُها من جلبابها‏.‏

ووصفُهم بالموصول لزيادة تقرير معنى إعداد أمثالهم للشّهادة، فالطّالب ينزّل نفسه منزلة من يظنّهم لا يخلُون عن شهداء بحقِّهم من شأنهم أن يشهدوا لهم وذلك تمهيد لتعجيزهم البين إذا لم يحضروهم، كما هو الموثوق به منهم ألا ترى قوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏ فهو يعلم أن ليس ثمة شهداء‏.‏

وإشارة ‏{‏هذا‏}‏ تشير إلى معلوم من السّياق، وهو ما كان الكلام عليه من أوّل الجدال من قوله‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏ الآيات، وقد سبقت الإشارة إليه أيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏‏.‏

ثمّ فرع على فرض أن يحضروا شهداء يشهدون، قوله‏:‏ ‏{‏فإن شهدوا فلا تشهد معهم‏}‏، أي إن فرض المستبعد فأحضروا لك شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا الذي زعموه، فكذّبهم وأعلم بأنَّهم شهود زور، فقوله‏:‏ ‏{‏فلا تشهد معهم‏}‏ كناية عن تكذيبهم لأنّ الذي يصدق أحداً يوافقه في قوله، فاستعمل النّهي عن موافقتهم في لازمه، وهو التّكذيب، وإلاّ فإنّ النَّهي عن الشّهادة معهم لمن يعلم أنَّه لا يشهد معهم لأنَّه لا يصدّق بذلك فضلاً على أن يكون شاهده من قبيل تحصيل الحاصل، فقرينة الكناية ظاهرة‏.‏

وعُطف على النّهي عن تصديقهم، النّهيُ عن اتّباع هواهم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبع أهواء الذين كذبوا‏}‏‏.‏

وأظهر في مقام الإضمار قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ لأنّ في هذه الصّلة تذكيراً بأنّ المشركين يكذّبون بآيات الله، فهم ممّن يتجنّب اتَّباعهم، وقيل‏:‏ أريد بالذين كذبوا اليهود بناء على ما تقدّم من احتمال أن يكونوا المراد من قوله‏:‏ ‏{‏فإن كذّبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 147‏]‏ وسمَّى دينهم هوى لعدم استناده إلى مستند ولكنّه إرضاء للهوى‏.‏ والهوى غلب إطلاقه على محبّة الملائم العاجل الذي عاقبته ضرر‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏145‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ والذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ عطف على ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ والمقصود عطف الصّلة على الصّلة لأنّ أصحاب الصّلتين متّحدون، وهم المشركون، فهذا كعطف الصّفات في قول القائل، أنشده الفراء‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهما *** م وليثثِ الكتيبة في المزدَحَم

كان مقتضَى الظاهر أن لا يعاد اسم الموصول لأنّ حرف العطف مغن عنه، ولكن أجري الكلام على خلاف مقتصى الظاهر لزيادة التّشهير بهم، كما هو بعض نكت الإظهار في مقام الإضمار‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالذين كذّبوا بالآيات‏:‏ الذين كذّبوا الرّسول عليه الصّلاة والسّلام والقرَآن، وهم أهل الكتابين، وبالذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربِّهم يعدلون‏:‏ المشركون، وقد تقدّم معنى‏:‏ ‏{‏بربهم يعدلون‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون‏}‏ في أوّل هذه السورة ‏(‏1‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم‏.‏ والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد، ولذلك ابتدئ بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفاً‏.‏

وعُقّب بفعل‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏ اهتماماً بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ الآيات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ الآية، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام، من جلائل الأعمال، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم‏.‏

وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض‏.‏ وقد تلا عليهم أحكاماً قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها‏.‏

وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏ إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأوّل‏:‏ أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله‏:‏ ‏{‏ألاَّ تشركوا به شيئاً‏}‏‏.‏

الثّاني‏:‏ ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَقْرَبوا مال اليتيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏‏.‏

الثّالث‏:‏ أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقوله‏:‏ ‏{‏وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏

وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم وصاكم به‏}‏ ثلاث مرّات‏.‏

و ‏(‏تعالَ‏)‏ فعل أمر، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته، ثمّ شاع إطلاق ‏(‏تَعالَ‏)‏ على طلب المجيء مجازاً بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقاً، فقيل‏:‏ هو اسم فعللِ أمر بمعنى ‏(‏اقدَمْ‏)‏، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال‏:‏ تعاليتُ بمعنى ‏(‏قَدِمت‏)‏، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء، وأيّاً ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال‏:‏ تعالوا وتَعالَيْن‏.‏ وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات، ولكان مثل‏:‏ هَلُمّ وهَيْهات‏.‏

و ‏{‏أتْلُ‏}‏ جواب ‏{‏تعالوا‏}‏، والتّلاوة القراءة، والسّردُ وحكاية اللّفظ، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ و‏{‏ألاَّ تشركوا‏}‏ تفسير للتّلاوة لأنَّها في معنى القول‏.‏

وذُكرَت فيما حرّم الله عليهم أشياءُ ليست من قبيل اللّحوم إشارة إلى أنّ الاهتمام بالمحرّمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة، تعريضاً بصرف المشركين همتّهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكفّ المفاسد عن النّاس، ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده إلى قوله إنَّما حرم ربِّي الفواحش ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32، 33‏]‏ الآية‏.‏

وقد ذُكرت المحرّمات‏:‏ بعضها بصيغة النّهي، وبعضها بصيغة الأمر الصّريح أو المؤوّل، لأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه، ونكتة الاختلاف في صيغة الطّلب لهاته المعدودات سنبيّنها‏.‏

و ‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية لفعل‏:‏ ‏{‏أتل‏}‏ لأنّ التّلاوة فيها معنى القول‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏ألا تشركوا‏}‏ في موقع عطف بيان‏.‏ والابتداء بالنَّهي عن الإشراك لأنّ إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل، والفلاح في الآجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ألاَّ تشركوا‏}‏‏.‏ و‏{‏إحسانا‏}‏ مصدر ناب مناب فعله، أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النّهي عن ضدّه‏:‏ وهو الإساءة إلى الوالدين، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حَرّم الله لأنّ المحرّم هو الإساءة للوالدين‏.‏ وإنَّما عدل عن النّهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين، لأن الله أراد برهما، والبرّ إحسان، والأمرُ به يتضمّن النَّهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة، فكان الأولاد لا يوقّرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر‏.‏ فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم من إملاق‏}‏ جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النّهي عن الوأد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى في هذه السّورة ‏(‏137‏)‏‏:‏ ‏{‏وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ و‏(‏مِنْ‏)‏ تعليلية، وأصلها الابتدائيّة فجعل المعلول كأنَّه مبتدئ من علّته‏.‏

والإملاق‏:‏ الفقر، وكونه علّة لقتل الأولاد يقع على وجهين‏:‏ أن يكون حاصلاً بالفعل، وهو المراد هنا، وهو الذي تقتضيه ‏(‏من‏)‏ التّعليلية، وأن يكون متوقَّع الحصول كما قال تعالى، في آية سورة الإسراء ‏(‏31‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ لأنَّهم كانوا يئدون بناتهم إمّا للعجز عن القيام بهنّ وإمَّا لتوقّع ذلك‏.‏ قال إسحاق بن خلف، وهو إسلامي قديم‏:‏

إذَا تذكرتُ بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم

أحاذر الفقر يوماً أن يُلِمّ بها *** فيُكشفَ السترُ عن لحم على وضم

وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ في هذه السورة ‏(‏137‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏نحن نرزقكم وإياهم‏}‏ معترضة، مستأنفة، علّة للنّهي عن قتلهم، إبطالاً لمعذرتهم‏:‏ لأنّ الفقر قد جعلوه عذراً لقتل الأولاد، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعياً لقتل النّفس، فقد بيّن الله أنَّه لمّا خَلق الأولاد فقد قدّر رزقهم، فمن الحماقة أن يظنّ الأب أنّ عجزه عن رزقهم يخوّله قتلهم، وكان الأجدر به أن يكتسِبَ لهم‏.‏

وعُدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله‏:‏ ‏{‏ما حرم ربكم‏}‏ إلى طريق التكلّم بضمير‏:‏ نرزقكم تذكيراً بالذي أمر بهذا القول كلّه، حتى كأنّ الله أقحمَ كلامَه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به، فكلّم النّاس بنفسه، وتأكيداً لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم

وذكَرَ الله رزقهم مع رزق آبائهم، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنَّه كما رزق الآباء، فلم يموتوا جوعاً، كذلك يرزق الأبناء، على أن الفقر إنَّما اعترى الآباء فلِمَ يُقتل لأجله الأبناء‏.‏

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي‏.‏ هنا لإفادة الاختصاص‏:‏ أي نحن نرزقكم وإيَّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم‏.‏ وقد بيّنتُ آنفاً أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات‏.‏ فلذلك حذروا في هذه الآية‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ عطف على ما قبله‏.‏ وهو نهي عن اقتراف الآثام، وقد نهى عن القرب منها، وهو أبلغ في التّحذير من النّهي عن ملابستها‏:‏ لأنّ القرب من الشّيء مظنّة الوقوع فيه، ولمّا لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مراداً به الكناية عن ملابسة الإثم أقلّ ملابسة، لأنَّه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في الأمكنة إذا قيل لا تقرب منها فُهم النّهي عن القرب منها ليكون النّهي عن ملابستها بالأحرى، فلمّا تعذّر المعنى المطابقي هنا تعيّنت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه‏.‏

والفواحش‏:‏ الآثام الكبيرة، وهي المشتملة على مفاسد، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّما يأمركم بالسّوء والفحشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏169‏)‏‏.‏

وما ظهر منها‏}‏ ما يظهرونه ولا يسْتَخْفُون به، مثل الغضب والقذف‏.‏ ‏{‏وما بطن‏}‏ ما يستخْفون به وأكثره الزّنا والسّرقة وكانا فاشيين في العرب‏.‏

ومن المفسّرين من فسّر الفواحش بالزّنا، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا، وبما بطَن اتَّخاذ الأخدان سِرّاً، وروي هذا عن السُدّي‏.‏ وروي عن الضحّاك وابن عبّاس‏:‏ كان أهل الجاهليّة يرون الزّنا سِراً حلالاً، ويستقبحونه في العلانية، فحرّم الله الزّنى في السرّ والعلانية‏.‏ وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التّفسير الأوّل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ولعلّ الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزّنى قوله في سورة الإسراء ‏(‏32‏)‏ في آيات عَدَّدت منهيات كثيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً‏}‏ وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحداً‏.‏

وتقدّم القول في‏:‏ ‏{‏ما ظهر منها وما بطن‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏120‏.‏

‏(‏وأعقب ذلك بالنّهي عن قتل النّفس، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعمّ، تخصيصاً له بالذّكر‏:‏ لأنَّه فساد عظيم، ولأنّه كان متفشياً بين العرب‏.‏

والتّعريف في النّفس تعريف الجنس، فيفيد الاستغراق‏.‏

ووصفت بالتي حَرّم الله‏}‏ تأكيداً للتّحريم بأنَّه تحريم قديم فإنّ الله حرّم قتل النّفس من عهد آدم، وتعليق التّحريم بالنّفس‏:‏ هو على وجه دلالة الاقتضاء، أي حرّم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التّحريم والتّحليل بأعيان الذّوات أنَّه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذّات فيه كقوله‏:‏ ‏{‏أحلّت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ أي، أكلها، ويجوز أن يكون معنى‏:‏ ‏{‏حرم الله‏}‏ جعلها الله حَرَماً أي شيئاً محترماً لا يعتدى عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «وإنِّي أحَرّم ما بين لابَتَيْها»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏ استثناء مفرّغ من عموم أحوال ملابسة القتل، أي لا تقتلوها في أيَّة حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلاّ بسبب الحقّ، فالباء للملابسة أو السببيّة‏.‏

والحقّ ضدّ الباطل، وهو الأمر الذي حَقّ، أي ثبت أنّه غير باطل في حكم الشّريعة وعند أهل العقول السّليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصّة، فيكونُ الأمرَ الذي اتَّفقت العقول على قبوله، وهو ما اتَّفقت عليه الشّرائع، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصّة على أنَّه يحقّ وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصّة بأمّة أو زمن‏.‏

فالتّعريف في‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ للجنس، والمراد به ما يتحقّق فيه ماهية الحقّ المتقدّم شرحها، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام، وقد فصّل الإسلام حقّ قتل النّفس بالقرآن والسنّة، وهو قتل المحارب والقصاص، وهذان بنصّ القرآن، وقتل المرتدّ عن الإسلام بعد استتابَته، وقتل الزّاني المحصن، وقتل الممتنع من أداء الصّلاة بعد إنظاره حتّى يخرج وقتها، وهذه الثّلاثة وردت بها أحاديث عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ومنه القتل الناشئ عن إكراه ودفاععٍ مأذوننٍ فيه شرعاً وذلك قتل من يُقتل من البغاة وهو بنصّ القرآن، وقتل من يقتل من مانعي الزّكاة وهو بإجماع الصّحابة، وأمّا الجهاد فغير داخل في قوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏، ولكنّ قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقّاً، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم وصاكم به‏}‏ إلى مجموع ما ذكر، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحاً، ومنه‏:‏ ‏{‏كل أولئك كان عنه مسؤلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وتقدّم معنى الوصاية عند قوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏ آنفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ رجاء أن يعقلوا، أي يصيروا ذوي عقول لأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبئ عن خساسة عقل، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل، فلذلك رُجي أن يعقلوا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون‏}‏ تذييل جعل نهاية للآية، فأومأ إلى تنهية نوع من المحرّمات وهو المحرّمات الرّاجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعيّة للأمّة، بإصلاح الاعتقاد، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد، وحفظ النّوع بترك التّقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏‏.‏

عطف جملة‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا‏}‏ على الجملة التي فَسَّرت فعل‏:‏ ‏{‏أتْلُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ عطف محرّمات ترجع إلى حفظ قواع التّعامل بين النّاس لإقامة قواعد الجامعة الإسلاميّة ومدنيتها وتحقيق ثقة النّاس بعضهم ببعض‏.‏

وابتدأها بحفظ حقّ الضّعيف الذي لا يستطيع الدّفع عن حقّه في ماله، وهو اليتيم، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ والقِربان كناية عن ملابسة مال اليتيم‏.‏ والتّصرّف فيه كما تقدّم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الفواحش‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏ ولمَّا اقتضى هذا تحريم التصرّف في مال اليتيم، ولو بالخزن والحفظ، وذلك يعرّض ماله للتّلف، استُثني منه قوله‏:‏ ‏{‏إلا بالتي هي أحسن‏}‏ أي إلاّ بالحالة التي هي أحسن، فاسم الموصول صفة لموصوف محذوف يقدّر مناسباً للموصول الذي هو اسم للمؤنَّث، فيقدر بالحالة أو الخَصلة‏.‏

والباء للملابسة، أي إلاّ ملابسين للخصلة أو الحالة التي هي أحسن حالات القرب، ولك أن تقدّره بالمرّة من‏:‏ ‏{‏تقربوا‏}‏ أي إلاّ بالقَربة التي هي أحسن‏.‏ وقد التزم حذف الموصوف في مثل هذا التّركيب واعتباره مؤنَّثاً يجري مجرى المثل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ أي بالخصلة الحسنة ادفَعْ السيّئة، ومن هذا القبيل أنَّهم أتوا بالموصول مؤنَّثاً وصفاً لمحذوف ملتزم الحذف وحذفوا صلته أيضاً في قولهم في المثل‏:‏ «بعد اللَّتَيَّا والتي»، أي بعد الدّاهية الحقيرة والدّاهية الجليلة كما قال سُلْمِيّ بنُ ربيعةَ الضبِّي‏:‏

ولقد رأبْتُ ثَأى العشيرة بينَها *** وكفيتُ جانبها اللَّتَيَّا والتِي

و‏{‏أحسنُ‏}‏ اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، أي الحسنة، وهي النّافعة التي لا ضرّ فيها لليتيم ولا لِماله‏.‏ وإنَّما قال هنا‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا‏}‏ تحذيراً من أخذ ماله ولو بأقلّ أحوال الأخذ لأنَّه لا يدفع عن نفسه، ولذلك لم يقل هنا‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا كما قال في سورة البقرة ‏(‏188‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ والأشُدّ‏:‏ اسم يدلّ على قوّة الإنسان، وهو مشتقّ من الشدّ وهو التوثّق، والمراد به في هذه الآية ونظائرها، ممّا الكلام فيه على اليتيم، بلوغه القوّة التي يخرج بها من ضعف الصّبا، وتلك هي البلوغ مع صحّة العقل، لأنّ المقصود بلوغه أهليّة التصرّف في ماله‏.‏ وما منع الصّبي من التصرّف في المال إلاّ لضعف في عقله بخلاف المراد منه في أوصاف الرّجال فإنَّه يُعنى به بلوغ الرجل منتهى حدّ القوّة في الرّجال وهو الأربعون سنة إلى الخمسين قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ وقال سُحيم بن وَثيل‏:‏

أخُو خمسين مُجتمع أشُدّي *** وَنَجَّذني مداورة الشُّؤون

والبلوغ‏:‏ الوصول، وهو هنا مجاز في التدرّج في أطوار القوّة المخرِجة من وهن الصّبا‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ غاية للمستثنى‏:‏ وهو القربان بالتي هي أحسن، أي التصرّف فيه إلى أن يبلغ صاحبه أشدّه أي فيسلم إليه، كما قال تعالى في الآية الأخرى

‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏

ووجه تخصيص حقّ اليتيم في ماله بالحفظ‏:‏ أنّ ذلك الحقّ مظنّة الاعتداء عليه من الولي، وهو مظنة انعدام المدافع عنه، لأنَّه ما من ضعيف عندهم إلاّ وله من الأقارب والموالي من يدفع عنه إذا استجاره أو استنجده، فأمّا اليتيم فإنّ الاعتداء عليه إنَّما يكون من أقرب النّاس إليه، وهو وليّه، لأنَّه لم يكن يلي اليتيم عندهم إلاّ أقرب النّاس إليه، وكان الأولياء يتوسّعون في أموال أيتامهم، ويعتدُون عليها، ويضيعون الأيتام لكيلا ينشأوا نشأة يعرفون بها حقوقهم، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏ لأنّ اليتيم مظنّة الإضاعة فلذلك لم يوص الله تعالى بمال غير اليتيم، لأنّ صاحبه يدفع عن نفسه، أو يستدفع بأوليائه ومنجديه‏.‏

‏{‏وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط‏}‏‏.‏

عطف الأمر بإيفاء الكيل والميزان، وذلك في التّبايع، فقد كانوا يبيعون التّمر والزّبيب كيلاً، وكانوا يتوازنون الذّهب والفضّة، فكانوا يُطَفّفون حرصاً على الرّبح، فلذلك أمرهم بالوفاء‏.‏ وعدل عن أن يأتي فيه بالنَّهي عن التّطفيف كما في قول شعيب‏:‏ ‏{‏ولا تَنقصوا المكيال والميزان‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 84‏]‏ إشارة إلى أنَّهم مأمورون بالحدّ الذي يتحقّق فيه العدل وافياً، وعدمُ النّقص يساوي الوفاء، ولكن في اختيار الأمر بالإيفاء اهتماماً به لتكون النّفوس ملتفتة إلى جانب الوفاء لا إلى جانب ترك التّنقيص، وفيه تذكير لهم بالسّخاء الذي يتمادحُون به كأنَّه قيل لهم‏:‏ أين سخاؤكم الذي تتنافسون فيه فهلا تظهرونه إذا كِلْتم أو وزنتم فتزيدوا على العدل بأن توفّروا للمُكتال كرماً بله أن تسرقوه حقّه‏.‏ وهذا تنبيه لهم على اختلال أخلاقهم وعدم توازنها‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ للملابسة والقسط العدل، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏18‏)‏، أي أوفوا متلبّسين بالعدل بأن لا تظلموا المكتال حقّه‏.‏

لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏.‏

ظاهر تعقيب جملة‏:‏ ‏{‏وأوفوا الكيل‏}‏ إلخ بجملة‏:‏ ‏{‏لا نكلف نفساً إلا وسعها‏}‏ أنَّها متعلّقة بالتي وليتها فتكون احتراساً، أي لا نكلّفكم تمام القسط في الكيل والميزان بالحبّة والذرّة ولكنّا نكلّفكم ما تظنّون أنَّه عدل ووفاء‏.‏ والمقصود من هذا الاحتراسسِ أنّ لا يَترك النّاسُ التّعامل بينهم خشية الغلط أو الغفلة، فيفضي ذلك إلى تعطيل منافع جمّة‏.‏ وقد عدل في هذا الاحتراس عن طريق الغيبة الذي بُنيَ عليه المقول ابتداء في قوله‏:‏ ‏{‏ما حرم ربكم عليكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ لِما في هذا الاحتراس من الامتنان، فتولّى الله خطاب النّاس فيه بطريق التكلّم مباشرة زيادة في المنّة، وتصديقاً للمبلّغ، فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري في مظنّة الإضاعة، لأنّ حالة الكيل والوزن حالة غفلة المشتري، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان، ولأنّ المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمّل التّطفيف، فأوصِي البائع بإيفاء الكيل والميزان‏.‏

وهذا الأمر يدلّ بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشدّ من التّطفيف، فإنّ التّطفيف إن هو إلاّ مخالسة قَدْر يسير من المبيع، وهو الذي لا يظهر حين التّقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أوْلى بالحفظ، وتجنّب الاعتداء عليه‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏لا نكلف نفساً إلا وسعها‏}‏ تذييلاً للجمل التي قبلها، تسجيلاً عليهم بأنّ جميع ما دُعوا إليه هو في طاقتهم ومكنتهم‏.‏ وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ في آخر سورة البقرة ‏(‏286‏)‏‏.‏

وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏‏.‏

هذا جامعٌ كلّ المعاملات بين النّاس بواسطة الكلام وهي الشّهادة، والقضاء، والتّعديل، والتّجريح، والمشاورة، والصّلح بين النّاس، والأخبار المخبِرة عن صفات الأشياء في المعاملات‏:‏ من صفات المبيعات، والمؤاجرات، والعيوب؛ وفي الوعود، والوصايا، والأيمان؛ وكذلك المدائح والشّتائم كالقذف، فكلّ ذلك داخل فيما يصدر عن القول‏.‏

والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق‏:‏ بإبطالها، أو إخفائها، مثل كتمان عيوب المبيع، وادّعاء العيوب في الأشياء السّليمة، والكذب في الأثمان، كأن يقول التّاجر‏:‏ أُعطيت في هذه السلعة كذا، لثمن لم يُعْطَه، أو أنّ هذه السّلعة قامتْ علي بكذا‏.‏ ومنه التزام الصّدق في التّعديل والتّجريح وإبداء النّصيحة في المشاورة، وقول الحقّ في الصّلح‏.‏ وأمّا الشّهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر، وإذا وَعَد القائل لا يُخلِف، وإذا أوْصَى لا يظلم أصحابَ حقوق الميراث، ولا يحلف على الباطل، وإذا مدحَ أحداً مدحه بما فيه، وأمَّا الشّتم فالإمساك عنه واجب ولو كان حقّاً فذلك الإمساك هو العدل لأنّ الله أمر به‏.‏

وفي التّعليق بأداة الشّرط في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قلتم‏}‏ إشارة إلى أنّ المرء في سعة من السكوت إن خشي قولَ العدل‏.‏ وأمَّا أن يقول الجور والظّلم والباطل فليس له سبيل إلى ذلك، والكذب كلّه من القول بغير العدل، على أنّ من السكوت ما هو واجب‏.‏ وفي «الموطأ» أنّ رجلاً خطب إلى رجل أختَه فذكر الأخُ أنَّها قد كانت أحدثَتْ فبلغ ذلك عُمر بن الخطّاب فضربه أو كاد يضربه ثمّ قال‏:‏ «مَالَك ولِلْخَبَر»‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولو كان‏}‏ واو الحال، ولو وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظُنّ السّامع عدمَ شموللِ الحكم إيَّاها لاختصاصها من بين بقيّة الأحوال التي يشملها الحكم، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏، فإنّ حالة قرابة المقوللِ لأجله القولُ قد تحمل القائل على أن يقول غير العدل، لنفع قريبه أو مصانعته، فنبّهوا على وجوب التزام العدل في القول في تلك الحالة، فالضّمير المستتر في ‏(‏كان‏)‏ كائد إلى شيء معلوم من الكلام‏:‏ أي ولو كان الذي تعلّق به القول ذا قربى‏.‏

والقربى‏:‏ القرابة ويُعلم أنَّه ذو قرابة من القائل، أي إذا قلتم قولاً لأجله أو عليه فاعدلوا ولا تقولوا غير الحقّ، لا لدفع ضرّه بأن تغمصوا الحقّ الذي عليه، ولا لنفعه بأن تختلقوا له حقّاً على غيره أو تبرءوه ممّا صدر منه على غيره، وقد قال الله تعالى في العدل في الشّهادة والقضاء‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

وقد جاء طلب الحقّ في القول بصيغة الأمر بالعدل، دون النّهي عن الظلم أو الباطل‏:‏ لأنَّه قيّده بأداة الشّرط المقتضي لصدور القول‏:‏ فالقول إذا صدر لا يخلو عن أن يكون حقّاً أو باطلاً، والأمر بأن يكون حقّاً أوفَى بمقصد الشّارع لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ الله يحبّ إظهار الحقّ بالقول، ففي الأمر بأن يكون عدلاً أمر بإظهاره ونهي عن السّكوت بدون موجب‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّ النَّهي عن قول الباطل أو الزّور يصدق بالكلام الموجَّه الذي ظاهره ليس بحقّ، وذلك مذموم إلاّ عند الخوف أو الملاينة، أو فيما لا يرجع إلى إظهار حقّ، وتلك هي المعاريض التي ورد فيها حديث‏:‏ «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب»‏.‏

ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله‏:‏ ‏{‏وبعهد الله أوفوا‏}‏‏.‏ وعهد الله المأمور بالإيفاء به هو كلّ عهد فيه معنى الانتساب إلى الله الذي اقتضته الإضافة، إذ الإضافة هنا يصحّ أن تكون إضافة المصْدر إلى الفاعل، أي ما عهد اللَّهُ به إليكم من الشّرائع، ويصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى مفعوله، أي ما عاهدتم الله أن تفعلوه، والتزمتموه وتقلّدتموه، ويصحّ أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة، أي العهد الذي أمر الله بحفظه، وحذر من ختره، وهو العهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد‏.‏ ولأجل مراعاة هذه المعاني النّاشئة عن صلاحيّة الإضافة لإفادتها عُدِل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل، بأن يقال‏:‏ وبما عاهدتم الله عليه، أو نحن ذلك ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً‏.‏ وإذْ كان الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ للمشركين تعيّن أن يكون العهد شيئاً قد تقرّرت معرفته بينهم، وهو العهود التي يعقدونها بالموالاة والصّلح أو نحو ذلك فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه‏.‏ وأضيف إلى الله لأنَّهم كانوا يتحالفون عند التّعاقد ولذلك يسمّون العهد حِلْفاً، قال الحارث بن حلِّزة‏:‏

واذْكروا حِلْف ذي المجاز وما *** قُدم فيه العهودُ والكفلاء

وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

ونُوجد نحن أمنعَهم ذماراً *** وأوفاهم إذا عقَدوا يميناً

فالآية آمرة لهم بالوفاء، وكان العرب يتمادحون به‏.‏ ومن العهود المقرّرة بينهم‏:‏ حلف الفضول، وحلف المطيَّبين، وكلاهما كان في الجاهليّة على نفي الظّلم والجور عن القاطنين بمكّة، وذلك تحقيق لعهد الله لإبراهيم عليه السّلام أن يجعل مكّة بلداً آمناً ومن دخله كان آمناً، وقد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين وظلموهم مثللِ عمار، وبلال، وعامر بن فهيرة، ونحوهم، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أنّ خفر عهد الله بأمان مكّة، وخفر عهودكم بذلك، أولى بأن تحرّموه من مزاعمكم الكاذبة فيما حرّمتم وفصّلتم، فهذا هو الوجه في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وبعهد الله أوفوا‏}‏‏.‏

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد وصرف ذهن السّامع عند، ليتقرّر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء، أي إن كنتم تَرَون الوفاء بالعهد مدحة فعهد الله أولى بالوفاء وأنتم قد اخترتموه، فهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير‏}‏ ثمّ قال ‏{‏وصَدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏

‏{‏ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

تكرار لقوله المماثل له قبله، وقد علمت أنّ هذا التّذييل ختم به صنف من أصناف الأحكام‏.‏ وجاء مع هذه الوصيّة بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ لأنّ هذه المطالب الأربعة عرف بين العرب أنَّها محامد، فالأمر بها، والتّحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها ولكنّهم تناسوه بغلبة الهوى وغشاوة الشّرك على قلوبهم‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، ويعقوبُ‏:‏ تذّكرون بتشديد الذال لإدغام التّاء الثّانية في الذال بعد قلبها، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، وخلَف بتخفيف الذال على حذف التّاء ا- لثّانية تخفيفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

الواو عاطفة على جملة‏:‏ ‏{‏ألاَّ تشركوا به شيئاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب وترتيبه، وفي تخلّل التّذييلات التي عَقِبت تلك الأغراض بقوله‏:‏ ‏{‏لعلّكم تعقلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ ‏{‏لعلّكم تذّكرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ‏{‏لعلّكم تتّقون‏}‏ وهذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي في القرآن‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏أنّ‏}‏ بفتح الهمزة وتشديد النّون‏.‏

وعن الفراء والكسائي أنَّه معطوف على‏:‏ ‏{‏ما حَرّم ربُّكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏، فهو في موضع نصب بفعل‏:‏ ‏{‏أتْلُ‏}‏ والتّقدير‏:‏ وأتْلُ عليكم أنّ هذا صراطي مستقيماً‏.‏

وعن أبي عليّ الفارسي‏:‏ أنّ قيَاس قول سيبويه أنْ تحمل ‏(‏أنّ‏)‏، أي تُعلَّق على قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏، والتّقدير‏:‏ ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏ المعنى‏:‏ ولأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً اه‏.‏

ف ‏{‏أنّ‏}‏ مدخولة للام التّعليل محذوفة على ما هو المعروف من حذفها مع ‏(‏أنّ‏)‏ و‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ وتقدير النّظم‏:‏ واتَّبعوا صراطي لأنَّه صراط مستقيم، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفاً، فصار التّعليل معطوفاً لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل وتسبّبه، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم، كأنَّه قيل‏:‏ لمّا كان هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏وإنّ‏}‏ بكسر الهمزة وتشديد النّون فلا تحويل في نظم الكلام، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏ تفريعاً على إثبات الخبر بأنّ صراطه مسقيم‏.‏ وقرأ ابن عامر، ويعقوب‏:‏ «وأنْ» بفتح الهمزة وسكون النّون على أنَّها مخفّفة من الثّقيلة واسمها ضمير شأن مُقدر والجملة بعده خبره، والأحسن تخريجها بكون ‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية معطوفة على‏:‏ ‏{‏ألاَّ تشركوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏ ووجه إعادة ‏{‏أنْ‏}‏ اختلاف أسلوب الكلام عمّا قبله‏.‏

والإشارة إلى الإسلام‏:‏ أي وأنّ الإسلام صراطي؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن وسماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، بحيث عرفه النّاس وتبيّنوه، فنزلّ منزلة المشاهد، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات والمَواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة، لأنَّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والصّراط‏:‏ الطّريق الجادة الواسعة، وقد مَرّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصّراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ والمراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة‏:‏ ‏{‏قل إنَّنِي هداني ربِّي إلى صراط مستقيم ديناً قيّماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏ لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا والآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه ومقصده‏.‏

ولمّا شبّه الإسلام بالصّراط وجعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنَّه مستقيم، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكاً على السائر وأسرع وصولاً به‏.‏

والياء المضاف إليها ‏(‏صراط‏)‏ تعود على الله، كما بيّنه قوله‏:‏ ‏{‏وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏ على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم‏}‏ في سورة العقود ‏(‏117‏)‏، وقد عدل عن طريقة الغيبة، التي جرى عليها الكلام من قوله‏:‏ ‏{‏ما حرم ربكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ لِغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل، لأنّ كونه صراط الله يكفي في إفادة أنَّه موصل إلى النّجاح، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتِّباعه على مجرّد كونه صراط الله‏.‏ ويجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول، إلاّ أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنَّه واضح الاستقامة، وإلاّ فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتَّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مستقيماً‏}‏ حال من اسم الإشارة، وحسَّن وقوعه حالاً أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنَّه مشاهد، فيقتضي أنَّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته وما جرّبوه منه وعرفوه، وأنّ ذلك يريهم أنَّه في حال الاستقامة كأنَّه أمر محسوس، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو‏:‏ ‏{‏وهذا بعلي شيخاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ ولم يأتوا به خبراً‏.‏

والسُبُل‏:‏ الطّرق، ووقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة، وهي التي يسمّونها‏:‏ بُنيات الطّريق، وهي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة، يسلكها بعض المارّه فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حَيّ، ولا يستطيع السّيرَ فيها إلاّ مَن عَقَلها واعتادها، فلذلك سبب عن النّهي قوله‏:‏ ‏{‏فتفرق بكم عن سبيله‏}‏، أي فإنَّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقاً عن السّبيل الجادّة، وليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏، بل لأنّ المقابلة والإخبار عنها بالتَّفرق دلّ على أنّ المراد سبُل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بكم‏}‏ للمصاحبة‏:‏ أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم، أي تتفرّقون مع تفرّقها، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة، في نحو‏:‏ ذَهَبْتُ بزيد، أنَّه بمعنى أذهبته، فيكون المعنى فتُفَرّقَكُم عن سبيله، أي لا تلاقون سبيلَه‏.‏

والضّمير المضاف إليه في‏:‏ ‏{‏سبيله‏}‏ يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله‏:‏ ‏{‏صراطي‏}‏ عائداً لله كان في ضمير ‏{‏سبيله‏}‏ التفاتاً عن سبيلي‏.‏

روى النّسائي في «سننه»، وأحمد، والدارمي في «مسنديهما»، والحاكم في «المستدرك»، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطّاً ثمّ قال‏:‏

‏"‏ هذا سبيل الله، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ‏(‏أي عن يمين الخطّ المخطوط أوّلاً وعن شماله‏)‏ ثمّ قال‏:‏ «هذه سُبُل على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها ‏"‏ ثمّ قرأ‏:‏ ‏{‏وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السّبل فتَتَفَرّق بكم عن سبيله‏}‏‏.‏ وروى أحمد، وابن ماجة، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏ كنّا عند النّبيء صلى الله عليه وسلم فخطّ خطّاً وخَطّ خطَّين عن يمينه وخَطّ خطيَّن عن يساره ثمّ وضع يده في الخطّ الأوْسط ‏(‏أي الذي بين الخطوط الأخرى‏)‏ فقال‏:‏ هذه سبيل الله، ثم تَلاَ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون‏}‏ وما وقع في الرّواية الأولى ‏(‏وخَطّ خطوطاً‏)‏ هو باعتبار مجموع ما على اليمين والشّمال ‏"‏ وهذا رسمه على سبيل التّقريب‏:‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون‏}‏ تذييل تكرير لمِثْليه السّابقين، فالإشارة ب ‏{‏ذلكمْ‏}‏ إلى الصّراط، والوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه‏.‏

وجعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات، فإذا اتَّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتَّصفوا بالتَّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتّقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏